لم أميز صوت الهاتف المحمول وهو يرن في قعر حقيبتي إلا بعد أن كنت قد تعديت أصوات منبهات السيارات وصخب الشارع، بصعوبة لحقت بآخر رنة له قبل أن يفقد الأمل ويطفئ أنوراه ، جاءني صوتها عبر أثير الهاتف محملا بفرحة لم أعهدها من قبل ، من انتِ؟ترى هل نسيتِ إحدى صديقات الجامعة وطويت أوراق الماضي ، إلا تذكرين عبق الاعظمية وهي تلوح لك وأنت تتوارين في شوارعنا باحثة عن بيتي ؟ تساءلت المتكلمة فعرفت بأنها رائحة عطرة من روائح الماضي القريب الذي لم يتعد السنوات القليلة إلا إنها كانت كفيلة بحرق بقايا صور شخوص فقدتهم إلا إن صورهم في قلبي لم تحترق ، صرخت دون أن أعي بمن حولي ، انتِ ؟ ثم أدركت إني في الشارع ولا يحق لي التعبير عن مثل تلك الفرحة بين أروقة شوارع مدينتنا المقدسة فأخبرتها بأنني سأعاود الاتصال بها من حالما أصل البيت ، أسرعت الخطى دون أن اعرف كيف أصبح إسفلت الشارع يلف قدماي ، وكأني أهرول كي أصل بلا معوقات ، ظننت إن الطريق أصبح طويلا جدا وبيتي صار يقبع في آخر بقعة في الكون .
وصلت بيتي ولم افعل شيئا بمجرد أن دخلت البيت سوى أن اطلب ذلك الرقم الذي أعاد لي سنواتي الغضة في أركان الجامعة ، جاءني صوتها منسابا فرحا ، إنها إحدى صديقاتي الأثيرات التي فقدت الاتصال بها اثر تغير أرقام الهواتف الأرضية وتدمير البدالات في عام 2003 والخوف من ولوج مناطق مثل الاعظمية في السنوات السابقة اثر أحداث العنف حينها ، ولم أجرؤ على السؤال عنها حتى باغتتني هي بالإجابة بمكالمتها تلك ، علمت منها بأنها حصلت على رقم هاتفي من إحدى الصديقات صدفة وصارت تسرد لي ا حل بزملائنا وزميلاتها ، فلان سافر وفلانة هاجرت ، وفلانة الأخرى استشهدت في احد الانفجارات ، وتلك أنجبت ثلاثة أطفال وآخر أصبح أبا لطفلين .
من أين لك بكل تلك الأخبار ، لماذا طويت أوراقي داخل مدينتي بينما لا زلتم تتواصلون في العاصمة .قالت :
ليس تواصلا بل هي مجرد أخبار طفيفة عن هذا وذاك قد تعيد لنا اطمئنانا كنا قد فقدناه في زحمة حياتنا العملية ومسؤولياتنا ، ذكرتني بفرح البراءة الذي غادر من وجوهنا ونحن نعكف على رعاية أطفالنا ، ذكرتني بضحكاتنا ودعاباتنا التي كانت تملأ الأرجاء ، ذكرتني بأطياف كنت قد نسيتها ..أساتذة ، زملاء ،
كنت سعيدة جدا بهذا اللقاء الأثيري عبر الهاتف ، واتفقنا على اللقاء في اقرب وقت بمجرد زيارتي للعاصمة وأكثرنا من الوعود لبعضنا البعض بان لا نفترق ثانية وان نحاول العثور على باقي زملائنا في الجامعة وأخبارهم .
انتهت المكالمة ، مرت الأيام ، كنت قد ظننت حين اتصلت بها بأنني عدت عدة سنوات إلى الوراء وإنني سأستعيد بعضا مما فقدته من ذكريات صداقات لم أجد مثيلا لها اليوم ، ولكن المكالمة كانت الأولى والأخيرة ، تعاقبت بعدها مكالمات قصيرة ورسائل طفيفة ومن ثم .
عدنا لنمارس أعمالنا ونخوض حياتنا الصعبة من جديد ، مع الاحتفاظ ببعض من ذكريات من الصعب أن تعاد .